فصل: تفسير الآيات رقم (98- 108)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 36‏]‏

‏{‏اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى‏}‏، يعني‏:‏ علا وتكبر وادعى الربوبية، أي‏:‏ اذهب إليه وادعه إلى الإسلام‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبّ اشرح لِى صَدْرِى‏}‏، يعني‏:‏ يا رب وسع لي قلبي حتى لا أخاف منه، ويقال‏:‏ لين قلبي بالإسلام حتى أثبت عليه، ‏{‏وَيَسّرْ لِى أَمْرِى‏}‏؛ يعني‏:‏ هون علي ما أمرتني به، ‏{‏واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى‏}‏؛ يعني‏:‏ ابسط العقدة أي‏:‏ الرثة من لساني ‏{‏يَفْقَهُواْ قَوْلِي‏}‏، يعني‏:‏ يفهموا كلامي‏.‏ وذلك أن موسى عليه السلام في حال صغره رفعه فرعون في حجره فلطمه موسى لطمة، ويقال‏:‏ أخذ بلحيته ومدها إلى الأرض، فقال فرعون‏:‏ هذا من أعدائي الذين كنت أتخوف به، فقالت امرأته آسية بنت مزاحم‏:‏ صبيّ جاهل، لا عقل له ضع له طستاً من ذهب وطستاً من نار، حتى نعلم ما يصنع‏.‏ فوضعوا له ذلك فجاء جبريل عليه السلام فأخذ يده وأهوى بها إلى النار، فأخذ جمرة فوضعها في فيه فكانت الرثوثة من ذلك، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَفْقَهُواْ قَوْلِي‏}‏‏.‏

‏{‏واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِى‏}‏، يعني‏:‏ اجعل لي معيناً من أهلي أخي هارون‏.‏ ‏{‏اشدد بِهِ أَزْرِى‏}‏، حتى يكون قوة لي‏.‏ والأزر الظهر وجمعه أزر ويراد به القوة‏.‏ يقال‏:‏ آزرت فلاناً على الأمر أي‏:‏ قويته عليه، وإنما نصب ‏{‏هارون‏}‏ لوقوع الفعل عليه، والمعنى اجعل هارون أخي وزيراً، فصار الوزير المفعول الثاني‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى‏}‏، يعني‏:‏ في نبوتي؛ قرأ ابن عامر ‏{‏اشدد‏}‏ بنصب الألف ‏{‏وَأَشْرِكْهُ‏}‏ بضم الألف على معنى الخبر عن نفسه، أي‏:‏ أنا أفعل ذلك وإنما كان جزماً على الجزاء في الأمر، والباقون ‏{‏اشدد‏}‏ بضم الألف ‏{‏وَأَشْرِكْهُ‏}‏ بنصب الألف على معنى الدعاء، يعني‏:‏ اللهم أشدد به أزري وأشركه في أمري، قال أبو عبيدة‏:‏ بهذه القراءة نقرأ، ويكون حرف ابن مسعود شاهداً لها‏.‏ وكان يقرأ ‏{‏هارون أَخِى * واشدد ***** بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى‏}‏ وفي حرف أُبَي ‏{‏وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى * واشدد ***** بِهِ أَزْرِى‏}‏ قال كأنه دعا ثم قال‏:‏ ‏{‏كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً‏}‏، يعني‏:‏ نصلي لك كثيراً، ‏{‏وَنَذْكُرَكَ‏}‏ باللسان ‏{‏كَثِيراً‏}‏، يعني‏:‏ على كل حال ‏{‏إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً‏}‏، أي‏:‏ كنت عالماً بنا في الأحوال كلها ‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى *** موسى‏}‏، يعني‏:‏ أعطيناك ما سألته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد منَّنا عليك مرة أخرى‏}‏، يعني‏:‏ قد أكرمتك بكرامات قبل هذا من غير أن تسألني‏.‏ ثم بيّن له الكرامات والنعم فقال‏:‏ ‏{‏***‏}‏، يعني‏:‏ قد أكرمتك بكرامات قبل هذا من غير أن تسألني‏.‏ ثم بيّن له الكرامات والنعم فقال‏:‏ ‏{‏إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى‏}‏، أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم، أي‏:‏ ألهمنا أمك ما ألهمت، ويقال‏:‏ ‏{‏مَا يوحى‏}‏ على الحجر، يعني‏:‏ كان إلهاماً ولم يكن وحياً‏.‏ ‏{‏أَنِ اقذفيه فِى التابوت‏}‏، يعني‏:‏ اجعلي موسى في التابوت، ثم ‏{‏فاقذفيه فِى اليم‏}‏، يعني‏:‏ اطرحيه في البحر‏.‏ ‏{‏فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل‏}‏، يعني‏:‏ شاطئ البحر‏.‏ ‏{‏يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ‏}‏، يعني‏:‏ آل فرعون ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى‏}‏، يعني‏:‏ ألقيت محبتي عليك فكل من رآك أحبك‏.‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى‏}‏، يقول ما يصنع بك على منظر مني وبعلمي وبإرادتي‏.‏

‏{‏إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ‏}‏‏:‏ لآل فرعون ‏{‏هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ أرشدكم على من يكفله، يعني‏:‏ يضمه ويحوطه ويرضعه‏.‏ ‏{‏فرجعناك إلى أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها‏}‏، يعني‏:‏ رددناك إليها لتطيب نفسها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم‏}‏، يعني‏:‏ من القود، ‏{‏وفتناك فُتُوناً‏}‏؛ يعني‏:‏ ابتليناك ببلاء بعد بلاء ويقال‏:‏ بنعمة على إثر نعمة‏.‏

قال‏:‏ أخبرني الثقة بإسناده، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ سألت ابن عباس‏.‏ عن قوله تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏وفتناك فُتُوناً‏}‏ فسألته عن الفتون ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ استأنف النهار يا ابن جبير، فإن له حديثاً طويلاً‏.‏ فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس، ليخبرني ما وعدني من حديث الفتون، فقال ابن عباس‏:‏ تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم‏:‏ إن بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكون فيه‏.‏ قال فرعون‏:‏ فكيف ترون‏؟‏ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار، يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ففعلوا، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون وأن الصغار يذبحون قالوا‏:‏ يوشك أن يفني بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم، فاقتلوا عاماً ودعوا، أي‏:‏ اتركوا عاماً لا تقتلوا منهم أحداً فنشأ الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا فتخافون مكاثرتهم إياكم فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانيةً حتى إذا كان من قابل حملت بموسى، فوقع في قلبها من الحزن والهم ما لا يعلم، فذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏

فأدخل عليه في بطن أمه ما يراد به فأوحى الله تعالى إليها أنْ ‏{‏لا *** تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجاعلوه مِنَ المرسلين‏}‏ وأمرها إذا هي ولدته أن تجعله في التابوت، ثم تلقيه في اليم‏.‏

فلما ولدته فعلت ما أُمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها‏:‏ ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته، كان أحب إلي من أن ألقيته بيدي إلى دواب البحر تأكله‏.‏ فانطلق به الماء حتى رقا به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فرأينه وأخذنه فهممن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن لبعض‏:‏ إن في هذا مالاً، وإنَّا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه‏.‏ فحملنه كهيئته حتى دخلن به عليها فدفعنه إليها‏.‏ فلما فتحنه ونظرت، فإذا فيه غلام فألقى عليه منها محبة لم يُلْقَ مثلها على أحد قط من البشر، ‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً‏}‏ من ذكر كل شيء إلا ذكر موسى؛ فلما سمع الذباحون بذكره، أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم يريدون أن يذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏

فقالت للذباحين‏:‏ اصبروا عليّ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ولا ينقص، حتى آتي فرعون فأستوهبه إياه؛ فإن وهبه لي فقد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم أنهكم‏.‏ فلما أتت فرعون به قالت‏:‏ قرة عين لي ولك لا تقتلوه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً‏.‏ فقال فرعون‏:‏ يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه‏.‏ فقال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وَالَّذِي يَحْلِفُ بهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ بِأنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ لَهَدَاهُ الله تَعَالَى بِمُوسَى‏.‏ كَمَا هَدَى بهِ امْرَأَتَهُ»‏.‏ قال‏:‏ فأرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار له ظِئراً، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل من ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فأحزنها ذلك ثم أمرت به فأخرج إلى السوق واجتمع الناس ترجوا أن تجد له ظئراً تأخذه منها، فلم تجد فأصبحت أم موسى والهاً، فقالت لأخته قصي أثره فاطلبيه‏.‏ هل تسمعين له ذكراً أحيٌّ ابني، أم قد أكلته الدواب في البحر‏؟‏ فبصرت به عن جنب، أي‏:‏ عن بعد‏.‏ والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد، وهي إلى جنبه لا يشعر بها فقالت‏:‏ ‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصحون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 12‏]‏ فقالوا وما يدريك ما نصحهم له، وهل يعرفونه‏؟‏ حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏

فقالت‏:‏ نصحهم له وشفقتهم عليه، لرغبتهم في الملك ورجاء منفعته‏.‏ فتركوها فانطلقت إلى أمها، فأخبرتها بالخبر، فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها، فمصه حتى امتلأ جنباه ريّاً، فانطلق البشرى إلى امرأة فرعون يبشرونها بأن قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها فأتت به وبها‏.‏

فلما رأت ما تصنع به، قالت لها‏:‏ امكثي عندي ترضعين ابني، فإني لم أحب مثل حبه شيئاً قط‏.‏ قالت‏:‏ لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي، لا آلو خيراً‏.‏ إلا فعلت به، فإن طابت نفسك؛ وإلا فإني غير تاركةٍ بيتي وولدي‏.‏

فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها، فأنجزها الله عز وجل وعده فأنبته الله نباتاً حسناً‏.‏ فلم تزل بنو إسرائيل تمتنع به من الظلم والسحرة‏.‏ فلما ترعرع أي‏:‏ كبر، قالت امرأة فرعون لأم موسى‏:‏ أريني ابني‏.‏ فواعدتها يوماً وقالت لخزانها وقهارمتها‏:‏ لا يبقى منكم أحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة‏.‏ فلم تزل الهدايا والكرامة تستقبله من حيث خرج من بيت أمه إلى أن دخل إلى امرأة فرعون، فلما دخل عليها بَجَّلَتْه وأَكرمته وفرحت به وأعجبها؛ وبَجَّلت أمه بحسن أثرها عليه‏.‏ ثم قالت‏:‏ لأدخلن به على فرعون فليبجلنَّه وليكرمنَّه‏.‏ فلما دخلت به عليه جعلته في حجره، فتناول موسى لحية فرعون ومدها إلى الأرض، فقالت له الغواة من أعداء الله تعالى‏:‏ ألا ترى إلى ما وعد الله لإبراهيم‏؟‏ إنه يريد أن يصرعك وينزع عنك ملكك ويهلكك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏

فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت له‏:‏ ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبته لي‏؟‏ فقال‏:‏ ألا ترينه، إنه سيصرعني‏؟‏ فقالت له‏:‏ اجعل بينك وبينه أمراً لتعرف فيه الحق‏.‏ ائت بجمرتين ولؤلؤتين؛ فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين، علمت أنه يعقل؛ وإن تناول الجمرتين، فاعلم بأنه لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل‏.‏ فقرب ذلك إليه، فتناول الجمرتين فانتزعوهما منه مخافة أن يحرقا يديه‏.‏

فلما بلغ أشده وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم ولا بسخرة‏.‏ فبينما هو يمشي في ناحية المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان‏.‏ أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من آل فرعون فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتد غضبه فوكزه فقتله، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي‏.‏ فأتى فرعون فقيل له‏:‏ إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا‏.‏ فقال‏:‏ ائتوني بقاتله والذي يشهد عليه آخذ لكم بحقكم‏.‏

فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئاً، وإذا موسى قد رأى من الغد الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني وقد ندم موسى على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى مثل ذلك، فخاف الإسرائيلي من موسى وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فقال الإسرائيلي‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الذى استنصره بالامس يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ‏}‏

‏[‏القصص‏:‏ 18‏]‏ فخاف الإسرائيلي وظن أنه يريده فقال‏:‏ يا موسى ‏{‏أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالامس‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 19‏]‏، فتتاركا فانطلق الفرعوني إلى قومه وأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر‏.‏ فأرسل فرعون إلى الذباحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى، وجاء رجل من شيعة موسى فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر؛ وذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏

فخرج موسى متوجهاً نحو مدين، لم يلق بلاءً قبل ذلك وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه تعالى، فإنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عسى ربى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السبيل‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 23‏]‏‏.‏ يعني‏:‏ إنهما حابستان غنمهما‏.‏ فقال‏:‏ ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس‏؟‏ قالتا‏:‏ ليس لنا قوة نزاحم القوم، وإِنما ننتظر فضل حياضهم فنسقي، فسقى لهما موسى فجعل يغدق في الدلو ماء كثيراً حتى لو كان أول الرعاة فراغاً، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما، وانصرف موسى إلى شجرة فاستظل بها‏.‏ فاستنكر أبو الجاريتين سرعة صدورهما بغنمهما حُفلاً بطاناً فقال‏:‏ إن لكما لشأناً اليوم‏.‏ فحدثاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتته فدعته‏.‏ فلما دخل على شعيب فأخبره بالقصة قال‏:‏ ‏{‏فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 25‏]‏، أي‏:‏ ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الأمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 26‏]‏ فاحتملته الغيرة وقال‏:‏ وما يدريك ما أمانته وقوته، فقالت‏:‏ أما قوته لما سقى لنا لم أر رجلاً قط أقوى منه في ذلك السقي؛ وأما أمانته فإنه ما نظرني حين أقبلت إِليه صَوَّبَ رأسه ولم يرفعه، ولم ينظر إلي حين بلغته رسالتك فقال لي‏:‏ امشي خلفي وانعتي إلي الطريق، يعني‏:‏ صفي ودليني على الطريق، فسري عن أبيها فقال له‏:‏ ‏{‏قَالَ إنى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 27‏]‏‏.‏

فكان على موسى ثمان سنين واجبة بسنتين عدة منه؛ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله؛ كان من أمره ما قصّ الله عليك في القرآن، فشكا إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه عن كثير من الكلام، فسأل ربه أن يعينه بأخيه ليتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به‏.‏

فأعطاه الله سؤاله وحلّ عقدة من لسانه، فاندفع موسى بالعصا فلقي هارون، فانطلقا جميعاً إِلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما بعد بالدخول، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا‏:‏ إنَّا رسولا ربك‏.‏ قال‏:‏ فمن ربكما‏؟‏ فأخبراه بالذي قصّ الله تعالى في القرآن‏.‏ فقال‏:‏ مَا تُريدَانِ‏؟‏ فقال موسى‏:‏ أريد أن تؤمن بالله وأن ترسل معنا بني إسرائيل‏.‏ فأبى عليه ذلك وقال‏:‏ ‏{‏مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِأايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 154‏]‏‏.‏ فألقى عصاه فتحولت حية عظيمة، فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فاقتحم فرعون عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه، ففعل وأخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء، ثم أعادها إلى كمه فصارت إلى لونها الأول‏.‏ فاستشار الملأ فيما رأى فقالوا‏:‏ اجمع لهما السحرة فإنهم بأرضك كثير فأرسل فرعون في المدائن فحضر له كل ساحر متعالم‏.‏ فلما أتوا فرعون، قالوا‏:‏ بمَ يعمل هذان الساحران‏؟‏ قال‏:‏ يعملان بالحيات‏.‏ فقالوا‏:‏ والله ما في الأرض أحد يعمل بالحيات التي نعمل‏.‏ فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى‏.‏

ويوم الزينة هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، وهو يوم عاشوراء، فقال الناس بعضهم لبعض‏:‏ انطلقوا فلنحضر هذا الأمر فنتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين، يعنون بذلك موسى وهارون استهزاءً بهما‏.‏ قالت السحرة لموسى ‏{‏***لِقُدْرَتِهِمْ بسحرهم‏}‏ ‏{‏قَالُواْ ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 115‏]‏‏.‏ قال لهم موسى‏:‏ ألقوا‏.‏ فألقوا حبالهم وعصيهم فرأى موسى من سحرهم شيئاً عظيماً، فأوجس في نفسه خيفة فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ أن ألق عصاك‏.‏ فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيماً فاغرة فاها، فجعلت تلتقم العصي والحبال حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتلعته‏.‏ فلما عرفت السحرة ذلك قالوا‏:‏ لو كان هذا ساحراً لم يبلغ من سحره كل هذا، ولكن هذا أمر من أمر الله تعالى‏.‏

فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة، أمر موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً، فأصبح فرعون فبعث في المَدَائِن حَاشِرين وتبعهم بجنود عظيمة فنسي موسى أن يضرب بعصاه البحر، فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال قوم موسى إنا لمدركون، افعل ما أمرك الله تعالى‏.‏ فذكر موسى ما وعده الله عز وجل، فضرب البحر بعصاه فانفلق البحر اثنتي عشرة فرقة‏.‏ فلما جاوز أصحاب موسى كلهم ودخل أصحاب فرعون كلهم، التقم البحر عليهم، فقال أصحاب موسى‏:‏ إنا نخاف أن لا يكون فرعون‏.‏ فدعا موسى ربه فأخرجه حتى استيقنوا، فمضوا حتى أنزلهم منزلاً، ثم قال لهم‏:‏ أطيعوا هارون فإني استخلفته عليكم، وإني ذاهب إلى ربي‏.‏ وأجَّلهم ثلاثين يوماً وصامهن‏.‏

وكره أن يكلمه ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغه، فقال له ربه حين أتاه‏:‏ لم أفطرت‏؟‏ وهو أعلم‏.‏

قال‏:‏ يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك ارجع حتى تصوم عشرة أيام، ثم ائتني‏.‏ ففعل موسى الذي أمره ربه تعالى، فلما رأى قوم موسى أنه لم يأتهم للأجل، ساءهم ذلك‏.‏

وأخرج لهم السامري عجلاً جسداً، له خوار من حلي آل فرعون فتفرقت بنو إسرائيل، فقالت فرقة للسامري‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ هذا ربكم، ولكن موسى أخطأ الطريق‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هذا من عمل الشيطان، وليس هذا بربنا‏.‏ وأسرت فرقة في قلوبهم التصديق، وقال لهم هارون‏:‏ إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن‏.‏ فلما كلم الله موسى، أخبره بما لقي قومه بعده، فرجع موسى إلى قومه غضبان أَسِفاً، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه كما قصَّ الله عز وجل في هذه السورة؛ وذلك من الفتون يا ابن جبير‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وفتناك فُتُوناً‏}‏، أي‏:‏ اختبرناك اختباراً، ويقال‏:‏ أخلصناك إخلاصاً‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر فِى الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ‏}‏، أي‏:‏ عشر سنين عند شعيب ‏{‏ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى *** موسى‏}‏؛ يعني‏:‏ على وقت مقدور عليك يا موسى، وهذا قول ابن عباس، وقال مقاتل‏:‏ على قدر، أي‏:‏ على ميقات، ويقال‏:‏ على موعد، ويقال‏:‏ على قدر من تكلمي إياك، ويقال‏:‏ على قضاء قضيته، ويقال‏:‏ على تمام الذي يوحى للأنبياء أربعين سنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏واصطنعتك لِنَفْسِى‏}‏، يعني‏:‏ اخترتك للرسالة والنبوة ولإقامة حجتي‏.‏ فقال موسى‏:‏ يا رب حسبي حسبي فقد تمت كرامتي، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى‏}‏، يعني‏:‏ آياتي التسع، ‏{‏وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى‏}‏؛ يعني‏:‏ لا تفترا ولا تعجزا ولا تضعفا عن أداء رسالتي‏.‏ ‏{‏اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى‏}‏، يعني‏:‏ تكبر وعلا‏.‏ ‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً‏}‏، يعني‏:‏ كلاماً باللين والشفقة والرفق، لأن الرؤساء بكلام اللين أقرب إلى الانقياد من الكلام العنيف‏.‏ أي‏:‏ قولا له‏:‏ أيها الملك، ويقال‏:‏ ‏{‏فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً‏}‏ لوجوب حقه عليك بما رباك، وإن كان كافراً‏.‏

وروى أسباط عن السدي قال‏:‏ القول اللين أن موسى جاءه، فقال له‏:‏ تسلم وتؤمن بما جئت به وتعبد رب العالمين، على أن لك شباباً لا تهرم أبداً، ويكون لك ملك لا ينزع منك أبداً حتى تموت، ولا ينزع منك لذة الطعام والشراب والجماع أبداً حتى تموت؛ فإذا مت دخلت الجنة‏.‏ قال‏:‏ فكأنه أعجبه ذلك وكان لا يقطع أمراً دون هامان، وكان هامان غائباً فقال له فرعون‏:‏ إن لي من أوامره وهو غائب حتى يقدم‏.‏ فلم يلبث أن قدم هامان فقال له فرعون‏:‏ علمت بأن ذلك الرجل أتاني‏؟‏ فقال هامان‏:‏ ومن ذلك الرجل‏؟‏ فقال فرعون‏:‏ هو موسى‏.‏ قال‏:‏ فما قال‏؟‏ فأخبره بالذي دعاه إليه‏.‏ قال‏:‏ فما قلت له‏؟‏ قال‏:‏ لقد دعاني إلى أمر أعجبني‏.‏ فقال له هامان‏:‏ قد كنت أرى لك عقلاً وأن لك رأياً بيناً أنت رب، أفتريد أن تكون مربوباً، وبينا أنت تعبد أفتريد أن تعبد غيرك‏؟‏ فغلبه على رأيه فأبى‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى‏}‏، يعني‏:‏ يتعظ أو يسلم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لعل في اللغة للترجي والتطمع، يقول‏:‏ لعله يصير إلى خير‏.‏ والله سبحانه وتعالى خاطب العباد بما يعقلون، والمعنى عند سيبوبه اذهبا على رجائكما وطمعكما، وقد علم الله تعالى أنه لا يتذكر ولا يخشى؛ إلا أن الحجة إنما تجب بإبائه؛ وقال بعض الحكماء‏:‏ إذا أردت أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فعليك باللين لأنك لست بأفضل من موسى وهارون، ولا الذي تأمره بالمعروف ليس بأسوأ من فرعون؛ وقد أمرهما الله تعالى بأن يأمراه باللين، فأنت أولى أن تأمر وتنهى باللين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 54‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالاَ‏}‏، أي‏:‏ موسى وهارون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا‏}‏؛ يعني‏:‏ أن يبادر بعقوبتنا‏.‏ يقال‏:‏ قد فرط منه أمر، أي‏:‏ قد بدر منه‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ»‏.‏ ويقال‏:‏ أن يفرط علينا، يعني‏:‏ أن يضر بنا‏.‏ ‏{‏أَوْ أَن يطغى‏}‏، يعني‏:‏ يقتلنا‏:‏ قال‏:‏ كان هذا القول من موسى وهارون حين رجع موسى إلى مصر، وأوحى إليهما فقالا عند ذلك‏:‏ إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى؛ وقال بعضهم‏:‏ قد قال الله ذلك لموسى عند طور سيناء؛ فأجابه موسى عن نفسه وعن هارون، فأضاف القول إليهما جميعاً‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَافَا‏}‏، أي‏:‏ لا تخافا عقوبة فرعون عند أداء الرسالة‏.‏ ‏{‏إِنَّنِى مَعَكُمَا‏}‏، أي‏:‏ معينكما‏.‏ ‏{‏أَسْمَعُ وأرى‏}‏، أي‏:‏ أسمع ما يرد عليكما، وأرى ما يصنع بكما ‏{‏فَأْتِيَاهُ‏}‏، يعني‏:‏ فاذهبا إلى فرعون، ‏{‏فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ‏}‏‏.‏ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله‏:‏ في الآية دليل أنه يجوز رواية الأخبار بالمعنى، وإنما العبرة للمعنى دون اللفظ، لأن الله تعالى حكى معنى واحداً بألفاظ مختلفة، وقال في آية أخرى ‏{‏فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 16‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ‏}‏ وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏قالوا ءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وهارون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 121/122‏]‏، وقال في موضع‏:‏ ‏{‏امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل وَلاَ تُعَذّبْهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ لا تستعبدهم‏.‏ ‏{‏قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ‏}‏، يعني‏:‏ باليد والعصا‏.‏ ‏{‏والسلام على مَنِ اتبع الهدى‏}‏، أي‏:‏ على من طلب الحق ورغب في الإسلام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏والسلام على مَنِ اتبع الهدى‏}‏ معناه أن من اتبع الهدى، فقد سلم من عذاب الله وسخطه ‏{‏إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب‏}‏ في الآخرة بالدوام ‏{‏على مَن كَذَّبَ وتولى‏}‏ عن التوحيد، والإيمان ولم يذكر في الآية أنهما فرعون، لأن في الكلام دليلاً عليه حيث ذكر قول فرعون، ومعناه أنهما أتيا فرعون وأديا إليه الرسالة وقالا‏:‏ ‏{‏إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ فرعون‏:‏ ‏{‏فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى *** موسى‏}‏، ولم يقل من ربي تكبراً منه‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَئ خَلْقَهُ‏}‏، يعني‏:‏ شكله؛ ويقال‏:‏ خلق لكل ذكر أنثى شبهه؛ ‏{‏ثُمَّ هدى‏}‏، يعني‏:‏ ألهمه الأكل والشرب والجماع، وقال القتبي‏:‏ الإهداء أصله الإرشاد، كقوله ‏{‏وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عسى ربى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السبيل‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 22‏]‏‏.‏ ثم الإرشاد مرة يكون بالدعاء، ومرة بالبيان‏.‏ وقد ذكرناه في سورة الأعراف، ومرة بالإلهام كقوله‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شَئ خَلْقَهُ‏}‏ أي‏:‏ صورته ‏{‏ثُمَّ هدى‏}‏ أي‏:‏ ألهمه إتيان الإناث‏.‏

ويقال‏:‏ ألهمه طلب المرعى وتوقي المهالك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أعطى كل شيء من خلقه ما يصلح له، ثم هداه أن موسى أخبره بالبعث والجزاء وأمر الآخرة‏.‏

وقال فرعون‏:‏ ‏{‏فَمَا بَالُ القرون الاولى‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ ما حال القرون الماضية وما شأنها‏؟‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى‏:‏ ‏{‏عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كتاب‏}‏، يعني‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏لاَّ يَضِلُّ رَبّى‏}‏ يعني‏:‏ لا يخفى على ربي، ‏{‏وَلاَ يَنسَى‏}‏ ما كان من أمرهم‏.‏ وقال مجاهد ‏{‏لاَّ يَضِلُّ رَبّى‏}‏، أي‏:‏ لا يخفى على ربي شيء واحد‏.‏ قال السدي‏:‏ أي‏:‏ لا يغفل ولا يترك، وكان الحسن يقرأ ‏{‏لاَّ يَضِلُّ‏}‏ بضم الياء، يعني‏:‏ لا يضله الله، يعني به الكتاب‏.‏ وإلى هذا الموضع حكاية كلام موسى‏.‏

ثم إن الله تبارك وتعالى قال لمشركي مكة‏:‏ ‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً‏}‏، يعني‏:‏ موضع القرار، وهو الرب الذي ذكر موسى لفرعون ودعاه إلى عبادته‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم ‏{‏مهادا‏}‏ والباقون ‏{‏مهادا‏}‏ أي‏:‏ فراشاً وبساطاً‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ المهد الفعل، يقال‏:‏ مهدت مهداً؛ والمهاد اسم الموضع‏.‏ ‏{‏وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً‏}‏، يعني‏:‏ حصل لكم فيها طرقاً، ‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏؛ يعني‏:‏ المطر، ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً‏}‏؛ يعني‏:‏ أنبتنا بالمطر أصنافاً وألواناً‏.‏ ‏{‏مّن نبات شتى‏}‏ مختلف ألوانه‏.‏ ‏{‏كُلُواْ وارعوا أنعامكم‏}‏‏.‏ اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر، يعني‏:‏ لتأكلوا منه وترعوا أنعامكم‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏، يعني‏:‏ إن في اختلاف ألوانه ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏، أي‏:‏ لعبرات ‏{‏لاِوْلِى النهى‏}‏، يعني‏:‏ لذوي العقول من الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 61‏]‏

‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏مِنْهَا خلقناكم‏}‏، يعني‏:‏ آدم خلقناه من الأرض، ‏{‏وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بعد موتكم، ‏{‏وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ نحييكم ونخرجكم من الأرض ‏{‏تَارَةً أخرى‏}‏‏.‏ ثم رجع إلى قصة فرعون فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أريناه كُلَّهَا فَكَذَّبَ‏}‏، يعني‏:‏ العلامات والدلائل، ‏{‏فَكَذَّبَ‏}‏ بالآيات، ‏{‏وأبى‏}‏ أن يسلم‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ فرعون وقومه‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى *** موسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ‏}‏، يعني‏:‏ ميعاداً لا نخلفه ‏{‏نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى‏}‏ أي‏:‏ لا نجاوزه مكاناً سوى ذلك المكان، وهذه قراءة نافع؛ وأبي عمرو والكسائي وابن كثير يقرؤون بالكسر قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ‏{‏سُوًى‏}‏ بضم السين معناه الإنصاف، وقال بعضهم‏:‏ سُوى وسِوَى لغتان، وقال مجاهد‏:‏ مكاناً منصفاً بينهم، وقال السدي‏:‏ أي‏:‏ عدلاً بينهم وقال القتبي‏:‏ أي‏:‏ وسطاً بين الفريقين‏.‏

‏{‏قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة‏}‏، يعني‏:‏ يوم عيد لهم وهو يوم النيروز؛ وروي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ هو يوم عاشوراء‏.‏ ‏{‏وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى‏}‏، يعني‏:‏ إذا حشر الناس واجتمعوا على وقت الضحى، ‏{‏فتولى فِرْعَوْنُ‏}‏؛ يعني‏:‏ رجع إلى أهله، ‏{‏فَجَمَعَ كَيْدَهُ‏}‏؛ يعني‏:‏ سحرته، ‏{‏ثُمَّ أتى‏}‏؛ يعني‏:‏ أتى الميعاد‏.‏ قرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏يَوْمُ الزينة‏}‏ بنصب الميم، والمعنى يقع في ‏{‏يَوْمُ الزينة‏}‏ وقراءة العامة يوم الزينة رفع على معنى خبر الابتداء‏.‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً‏}‏، يعني‏:‏ ضيّق الله عليكم الدنيا، لا تفتروا على الله كذباً قال الزجاج‏:‏ ‏{‏وَيْلَكُمْ‏}‏ منصوب على أن ألزمهم الله ويلاً، ويجوز أن يكون على النداء كما قال‏:‏ ‏{‏قَالَتْ ياويلتا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏ قوله ‏{‏فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ‏}‏، يعني‏:‏ يأخذكم بعذاب ويهلككم‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏فَيُسْحِتَكُم‏}‏ بضم الياء وكسر الحاء، والباقون ‏{‏فَيُسْحِتَكُم‏}‏ بالنصب؛ وهما لغتان‏.‏ يقال‏:‏ سحته وأسحته إذا استأصله وأهلكه‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى‏}‏، يعني‏:‏ خسر من اختلق على الله كذباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 66‏]‏

‏{‏فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تناظروا أمرهم بينهم، يعني‏:‏ اختلفوا فيما بينهم سراً من فرعون وهم السحرة، وقالوا فيما بينهم‏:‏ إن كان ما يقول موسى حقاً واجباً فيكون الغلبة لموسى، وذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ تناظروا أمرهم بينهم‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى‏}‏، أي‏:‏ أخفوا الكلام‏.‏ ‏{‏قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران‏}‏، يعني‏:‏ موسى وهارون، ‏{‏يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا‏}‏؛ قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏ءانٍ * هاذان لساحران‏}‏ لأن إن تنصب ما بعدها‏.‏ وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص ‏{‏إِنْ هاذان‏}‏ بجزم إن وتشديد نون هذانّ عند ابن كثير خاصة، والباقون إنَّ بالنصب والتشديد ‏{‏هاذان لساحران‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ نقرأ بهذا ورأيت في مصحف عثمان ‏{‏ءانٍ‏}‏ بهذا الخط ليس فيه ألف، وهكذا رأيت رفع الاثنين في جميع المصاحف بإسقاط الألف وإذا كتبوا بالنصب والخفض كتبوها بالياء‏.‏ وحكى الكسائي، عن أبي الحارث بن كعب وخثعم وزيد وأهل تلك الناحية، الرفع مكان النصب قال القائل‏:‏

أَي قلوص راكب تراها *** طاروا علاهن فطر علاها

وقال آخر‏:‏

إنَّ أبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا *** قَدْ بَلَغَا فِي الجِدِّ غَايَتَاهَا

وقال آخر‏:‏

فَمَنْ يَكُ بِالْمَدِينَةِ أَمْسَى رَحْلُه *** فَإِنِّي وَقَيَّارٍ بِهَا لَغَرِيبُ

وروى وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قالوا‏:‏ كانوا يريدون أن الألف والياء في القراءة سواء ‏{‏قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران‏}‏ و‏{‏ءانٍ‏}‏ سواء‏.‏ وفي مصحف عبد الله ‏{‏إِنْ هاذان‏}‏ وفي مصحف أبي ‏{‏إِنْ هاذان *** إِلا‏}‏‏.‏

ثم قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى‏}‏، يقول برجالكم الأمثل، فالأمثل‏.‏ يقول‏:‏ ليغلبا على الرجال من أهل العقول والشرف، وقال القتبي‏:‏ يقال‏:‏ هؤلاء طريقة القوم، أي‏:‏ أشرافهم، ويقال‏:‏ أراد سنتكم ودينكم، وقال الزجاج‏:‏ معناه يذهبا بأهل طريقتكم، كما قال‏:‏ ‏{‏واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ‏}‏؛ قرأ أبو عمرو ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ بجر الألف ونصب الميم، يعني‏:‏ جيئوا بكل كيد تقدرون عليه، لا تبقوا منه شيئاً؛ وقرأ الباقون ‏{‏فَأَجْمِعُواْ‏}‏ بقطع الألف وكسر الميم، ومعناه ليكن عزمكم كلكم على الكيد مجمعاً عليه، ولا تختلفوا فتخذلوا؛ وقال أبو عبيد‏:‏ بهذا نقرأ، لأن الناس عليها ولصحتها في العربية يقال‏:‏ أجمعت الأمر واجتمعت عليه؛ وإنما يقال‏:‏ جمعت الشيء المتفرق فتجمّع‏.‏ ‏{‏ثُمَّ ائتوا صَفّاً‏}‏، يعني‏:‏ جميعاً‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الصف المصلى؛ وقال الزجاج‏:‏ ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن قوله ثم ائتوا مصطفين، أي‏:‏ مجتمعين ليكون أنظم لكم ولأمركم، وأشد لهيبتكم‏.‏ ‏{‏وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى‏}‏، يعني‏:‏ قد فاز ونجا اليوم من علا بالغلبة‏.‏

ثم جمع فرعون بينهم وبين موسى عليه السلام ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا *** موسى‏}‏، يعني‏:‏ السحرة، ‏{‏إِمَّا أَن تُلْقِىَ‏}‏؛ يعني‏:‏ أن تطرح عصاك على الأرض، ‏{‏وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى‏}‏ إلى الأرض‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم موسى‏:‏ ‏{‏بَلْ أَلْقُواْ‏}‏، فألقوا في الكلام مضمر‏.‏ ‏{‏فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ‏}‏، يعني‏:‏ تراءت إلى موسى ‏{‏مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى‏}‏، يعني‏:‏ كأنها حيات‏.‏ وروي عن الحسن أنه كان يقرأ بالتاء ‏{‏تُخَيَّلُ‏}‏ لأن جمع العصي مؤنث، وقراءة العامة بالياء يعني‏:‏ سعيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 73‏]‏

‏{‏فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى‏}‏، يعني‏:‏ أضمر في قلبه الخوف، وخاف أن لا يظفر به إن صنع القوم مثل ما صنع؛ ويقال‏:‏ خاف من الحيات من جهة الطبع‏.‏ ‏{‏قُلْنَا لاَ تَخَفْ‏}‏، يعني‏:‏ أوْحَى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن لا تخف ‏{‏إِنَّكَ أَنتَ الاعلى‏}‏ يعني‏:‏ الغالب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ‏}‏، يعني‏:‏ اطرح ما في يمينك من العصا، ‏{‏تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ‏}‏؛ يعني‏:‏ تلقم ما عملوا‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ‏}‏، يعني‏:‏ عمل سحر‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ بالجزم والتخفيف؛ وقرأ ابن كثير في الروايتين ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ بالنصب والتشديد وضم الفاء، وقرأ الباقون بجزم الفاء لأنه جواب الأمر؛ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏كَيْدَ *** ساحر‏}‏ بغير ألف، وقرأ الباقون ‏{‏كَيْدُ سَاحِرٍ‏}‏، وقال أبو عبيد‏:‏ بهذا نقرأ، لأن إضافة الكيد إلى الرجل أولى من إضافته إلى السحر‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏كَيْدَ *** ساحر‏}‏ بنصب الدال جعله نصباً لوقوع الفعل عليه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ‏}‏؛ وهذا كقوله‏:‏ إنما ضربت زيداً؛ وقراءة العامة بالضم، لأنه خبر إن وما اسم، ومعناه إن الذي صنعوه كيد سحار‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى‏}‏، أي‏:‏ حيثما عمل؛ ويقال‏:‏ لا يفوز حيثما كان وذهب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً‏}‏، يعني‏:‏ من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا وهذا قول الأخفش؛ وقال الفراء والقتبي‏:‏ وقعوا للسجود ‏{‏قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى‏}‏ يعني، صدقنا به ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم فرعون‏:‏ ‏{‏قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ‏}‏، يعني‏:‏ قبل أن آمركم ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ‏}‏، يعني‏:‏ موسى لعالمكم‏.‏ ‏{‏الذى عَلَّمَكُمُ السحر‏}‏؛ وإنما أراد به التلبيس على قومه، لأنه علم أنهم لم يتعلموا من موسى، وإنما علموا السحر قبل قدوم موسى وقبل ولادته‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ‏}‏، اليد اليمنى والرجل اليسرى‏.‏ ‏{‏وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل‏}‏، يعني‏:‏ على أصول النخل على شاطئ النيل، ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى‏}‏؛ يعني‏:‏ وأدوم أنا أم رب موسى‏.‏

‏{‏قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ‏}‏، أي‏:‏ لن نختار عبادتك وطاعتك ولن نتبع دينك ‏{‏على مَا جَاءنَا مِنَ البينات‏}‏، يعني‏:‏ على دين الله بعدما جاءنا من العلامات ‏{‏والذى فَطَرَنَا‏}‏، يعني‏:‏ ولا عبادتك على عبادة الذي خلقنا، ويقال‏:‏ هو على معنى القسم، أي‏:‏ لن نختارك ودينك والذي فطرنا‏.‏ ‏{‏فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ‏}‏؛ يقول اصنع ما أنت صانع فاحكم فينا من القطع والصلب ما شئت‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا‏}‏، يقول‏:‏ لست بحاكم علينا ولا تملكنا إلا في الدنيا ما دام الروح فينا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا‏}‏، يعني‏:‏ ما عملنا في حال الشرك، ‏{‏وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر‏}‏؛ يعني‏:‏ ليغفر لنا ما أجبرتنا عليه من السحر يروى أن فرعون أكرههم على تعلم السحر ‏{‏والله خَيْرٌ وأبقى‏}‏، يعني‏:‏ الله خير لنا منك وأدوم، وثواب الله عز وجل خير من عطائك وأبقى مما وعدتنا به من التعذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 80‏]‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً‏}‏ أي‏:‏ مشركاً؛ والهاء للعباد وهذا قول الله تعالى عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه من يأت ربه يوم القيامة كافراً، ‏{‏فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى‏}‏، يعني‏:‏ لا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيى حياة تنفعه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً‏}‏، يعني‏:‏ يأتي يوم القيامة مؤمناً يعني‏:‏ مصدقاً، ‏{‏قَدْ عَمِلَ الصالحات‏}‏؛ يعني‏:‏ الطاعات‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى‏}‏، يعني‏:‏ الفضائل في الجنة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏، يعني‏:‏ هي جنات عدن‏.‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا‏}‏، يعني‏:‏ دائمين في الجنة‏.‏ ‏{‏وذلك جَزَاء مَن تزكى‏}‏، يعني‏:‏ ثواب من وحَّد‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى‏}‏، يعني‏:‏ سر بعبادي ليلاً ‏{‏فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً‏}‏؛ يعني‏:‏ بيِّن لهم طريقاً ‏{‏فِى البحر يَبَساً‏}‏، يعني‏:‏ يابساً‏.‏ ‏{‏لاَّ تَخَافُ دَرَكاً‏}‏ يعني إدراك فرعون، ‏{‏وَلاَ تخشى‏}‏ الغرق‏.‏ قرأ حمزة‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ * دَرَكاً‏}‏ على معنى النهي، يعني‏:‏ لا تخف أن يدركك فرعون؛ وقرأ الباقون ‏{‏لاَّ تَخَافُ‏}‏ بالألف ومعناه لست تخاف؛ وقال أبو عبيد بهذا نقرأ، لأن من قرأ بالجزم يلزم أن يخشى، لأنه حرف معطوف على الذي قبله‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ‏}‏، يعني‏:‏ لحقهم فرعون بجموعه، ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ أصابهم من البحر ما أصابهم؛ ويقال‏:‏ علاهم من البحر ما علاهم حين التقى البحر عليهم، ويقال‏:‏ فغشيهم من البحر ما غرقهم‏.‏ ‏{‏وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى‏}‏، يعني‏:‏ أهلكهم وما نجا بنفسه، ويقال‏:‏ أضلهم بحمله إياهم على الضلالة، ‏{‏وَمَا هدى‏}‏ يعني‏:‏ ما هداهم إلى الرشاد وهذا رد لقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذى ءَامَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 38‏]‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمَا هدى‏}‏ يعني‏:‏ ما هداه إلى الصواب‏.‏ ثم ذكر نعمته على بني إسرائيل فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏هدى يابنى إسراءيل قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ فرعون، ‏{‏وواعدناكم جَانِبَ الطور الايمن‏}‏؛ يعني‏:‏ يمين موسى، ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى‏}‏ حيث كانوا في التيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 82‏]‏

‏{‏كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم‏}‏، يعني‏:‏ قال لهم‏:‏ كلوا من حلالات ما رزقناكم، يعني‏:‏ أعطيناكم‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏***أَنْجَيْتكُمْ وَوَاعَدْتكُمْ مَا رَزَقْتكُمْ‏}‏ الثلاثة كلها بالتاء؛ وقرأ ابن كثير وعاصم ونافع وابن عامر الثلاثة بالألف والنون، وقرأ أبو عمرو بالتاء إلا قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ وواعدناكم‏}‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ‏}‏، أي‏:‏ لا ترفعوا منه شيئاً للغد، ‏{‏فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى‏}‏؛ يعني‏:‏ فيجب وينزل عليكم عذابي‏.‏ ‏{‏وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى‏}‏، يعني‏:‏ يجب وينزل عليه غضبي، ‏{‏فَقَدْ هوى‏}‏؛ يعني‏:‏ هلك وتردى في النار‏.‏ وقرأ الكسائي ‏{‏فَيَحِلَّ‏}‏ بضم الحاء ومن ‏{‏يَحْلِلْ‏}‏ بضم اللام، والباقون كلاهما بالكسر‏.‏ فمن قرأ بالضم يعني‏:‏ ينزل، ومن قرأ بالكسر يعني‏:‏ يجب‏.‏

‏{‏وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ‏}‏، يعني‏:‏ رجع من الشرك والذنوب ‏{‏وَامَنَ‏}‏ يعني‏:‏ صدق بالله ورسله، ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏؛ يعني‏:‏ خالصاً فيما بينه وبين ربه، ‏{‏ثُمَّ اهتدى‏}‏؛ يعني‏:‏ علم أن لعمله ثواباً؛ وهذا قول مقاتل‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك في قوله ‏{‏ثُمَّ اهتدى‏}‏ أي‏:‏ ثم استقام، وروى وكيع عن سفيان قال ‏{‏ثُمَّ اهتدى‏}‏، أي‏:‏ مات على ذلك وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اهتدى‏}‏ أي‏:‏ مات على السنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 89‏]‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى *** موسى‏}‏؛ وذلك أن موسى لما انتهى إلى الجبل مع السبعين الذين اختارهم، عجل موسى عليه السلام شوقاً إلى كلام ربه وأمرهم بأن يتبعوه إلى الجبل، فقال الله تعالى لموسى عليه السلام ‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى *** موسى‏}‏، يعني ما أسبقك عن قومك وتركت أصحابك خلفك‏؟‏ ‏{‏قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى‏}‏، ويحتمل أن يكون أولاء صلة، يعني‏:‏ هم على أثري يجيئون من بعدي‏.‏ ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى‏}‏، يعني‏:‏ لكي يزداد رضاك عني‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ‏}‏؛ وهذا على وجه الاختصار، لأنه لم يذكر ما جرى من القصة، لأنه ذكر في موضع آخر فها هنا اختصر الكلام وقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ‏}‏، يعني‏:‏ ابتلينا قومك من بعد انطلاقك إلى الجبل، ‏{‏وَأَضَلَّهُمُ السامرى‏}‏؛ يعني‏:‏ أمرهم السامري بعبادة العجل‏.‏ ‏{‏فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً‏}‏، حزيناً وقال القتبي‏:‏ ‏{‏أَسَفاً‏}‏ أي‏:‏ شديد الغضب؛ فلما دخل المحلة رآهم حول العجل فأبصر ما يصنعون حوله، ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ *** قَوْمٌ *** أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً‏}‏؛ يعني‏:‏ وعداً صدقاً ومعناه وعد الله عز وجل بأن يدفع الكتاب إلى موسى ليقرأه عليهم ويهتدوا به‏؟‏ ‏{‏أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد‏}‏، يعني‏:‏ أطالت عليكم المدة‏؟‏ ‏{‏أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ‏}‏، يعني‏:‏ يجب ‏{‏عَلَيْكُمْ غَضَبٌ‏}‏، يعني‏:‏ سخط ‏{‏مّن رَّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى‏}‏‏؟‏ بترك عبادة الله‏.‏

‏{‏قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا‏}‏، يعني‏:‏ ما تعمدنا ذلك؛ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏بِمَلْكِنَا‏}‏ بضم الميم، يعني ما فعلناه بسلطان كان لنا ولا قدرة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏بِمَلْكِنَا‏}‏ بكسر الميم‏.‏ والملك ما حوته اليد، وقرأ نافع وعاصم ‏{‏بِمَلْكِنَا‏}‏ بنصب الميم وهو بمعنى الملك‏.‏ ‏{‏ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَاراً‏}‏، يعني‏:‏ آثاماً ‏{‏مّن زِينَةِ القوم‏}‏، يعني‏:‏ من حلي آل فرعون؛ ويقال‏:‏ أوزاراً يعني‏:‏ حمالاً، ‏{‏فَقَذَفْنَاهَا‏}‏؛ يعني‏:‏ فطرحناها في النار‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏حُمّلْنَا‏}‏ بالنصب والتخفيف، وقرأ الباقون بضم الحاء وتشديد الميم على فعل ما لم يُسم فاعله‏.‏ ‏{‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامرى‏}‏ يعني ألقاها في النار كما ألقينا‏.‏

وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان السامري من أهل قرية يعبدون البقر، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام معهم، وفي قلبه حب عبادة البقر، فابتلى الله عز وجل به بني إسرائيل؛ فكشف له عن بصره، فرأى أثر فرس جبريل عليه فأخذ من أثرها‏.‏ وقد كان هارون قال لبني إسرائيل‏:‏ إنكم قد تحملتم من حلي آل فرعون وأمتعتهم معكم، وهي نجسة فتطهروا منها، وأوقدوا لهم ناراً فأحرقوها فيه‏.‏

فجعلوا يأتون بالحلي والأمتعة فيقذفونها في النار، فانسبك الحلي‏.‏ وأقبل السامري وفي يده تلك القبضة من أثر فرس الرسول يعني جبريل عليه السلام فوقف فقال‏:‏ يا نبي الله ألقها فيه‏.‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ وهارون لا يظن إلا أنه من الحلي الذي يأتي به بنو إسرائيل، فقذفها فيه وقال‏:‏ كن عجلاً جسداً له خوار وقال السدي‏:‏ جاء جبريل ليذهب بموسى إلى ربه، وجبريل على فرس، فبصر به السامري‏:‏ ويقال‏:‏ إن ذلك الفرس فرس الحياة فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس، فلما ألقى التراب في الحلي صار عجلاً جسداً له خوار، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هذا إلهكم وإله موسى‏}‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كان السامري من بني إسرائيل وقد ولدته أمه في غار مخافة أن يذبح، فرباه جبريل عليه السلام في الغار حتى كبر؛ فلما رأى جبريل على فرس الحياة، عرفه لأنه قد كان رآه في صغره‏.‏ فأخذ قبضة من تراب من أثر حافر فرسه، ثم ألقاها في جوف العجل، فصار عجلاً له خوار، يعني‏:‏ صوتاً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ خوار العجل كان هفيف الريح إذا دخلت جوفه؛ وهكذا روي عن علي بن أبي طالب، وإحدى الروايتين عن ابن عباس أنه قال‏:‏ صار عجلاً له لحم ودم وخرج منه الصوت مرة واحدة‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏هذا إلهكم‏}‏، يعني‏:‏ قال السامري وَإلَهُ مُوسَى ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏، يعني‏:‏ أخطأ موسى الطريق‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس قوله‏:‏ ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏ أي نسي موسى أن يخبركم أن هنا إله، وقال قتادة‏:‏ قوله ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى‏}‏ ولكن موسى نسي ربه عندكم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ لم يكن لهم عقل يعلموا أنه لم يكن إلههم حيث لا يكلمهم ولا يجيبهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً‏}‏، يعني‏:‏ لا يقدر على دفع مضرتهم، ‏{‏وَلاَ نَفْعاً‏}‏؛ أي‏:‏ ولا جر منفعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 97‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ من قبل مجيء موسى إليهم‏:‏ ‏{‏قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ‏}‏، يعني‏:‏ إنما ابتليتم بعبادة العجل‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن‏}‏، يعني‏:‏ إلهكم الرحمن، ‏{‏فاتبعونى‏}‏، يعني‏:‏ اتبعوا ديني ‏{‏وَأَطِيعُواْ أَمْرِى‏}‏؛ يعني‏:‏ قولي‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين‏}‏، يعني‏:‏ لا نزال على عبادة العجل مقيمين، ‏{‏حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى‏}‏‏.‏ فلما جاءهم موسى، ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ *** هارون مَا *** مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ‏}‏، يعني أخطؤوا الطريق بعبادة العجل ‏{‏إِلا‏}‏ يعني‏:‏ أن لا تتبع أمري في وصيتي فتناجزهم الحرب‏؟‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى‏}‏، يعني‏:‏ أفتركت وصيتي‏؟‏‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ له موسى ذلك بعدما أخذ بشعر رأسه ولحيته، فقال هارون عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَالَ ابن أُمَّ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏قَالَ ابن أُمَّ‏}‏ بكسر الميم على معنى الإضافة، والباقون بالنصب بمنزلة اسم واحد ‏{‏لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى‏}‏، أي‏:‏ ولا بشعر رأسي‏.‏ ‏{‏إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ‏}‏، يعني‏:‏ جعلتهم فريقين وألقيت بينهم الحرب، ‏{‏وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى‏}‏؛ يعني‏:‏ لم تنتظر قدومي ثم أقبل على السامري، ‏{‏قَالَ‏}‏ له‏:‏ ‏{‏فَمَا خَطْبُكَ ياسامري‏}‏‏؟‏ يقول‏:‏ ما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت‏؟‏ ف ‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ‏}‏ السامري‏:‏ ‏{‏بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ‏}‏‏.‏ قرأ حمزة والكسائي بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة ‏{‏بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ‏}‏، يعني‏:‏ رأيت ما لم يَرَوا وعلمت ما لم يعلموا به يعني‏:‏ بني إسرائيل‏.‏ قال موسى‏:‏ ما الذي رأيت دون بني إسرائيل‏؟‏ فقال‏:‏ رأيت جبريل على فرس الحياة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول‏}‏، يعني‏:‏ من أثر فرس جبريل؛ وفي قراءة عبد الله بن مسعود ‏{‏***فَقَبصتُ قَبْصَةً‏}‏ بالصاد، وروي عن الحسن أنه قرأ ‏{‏يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً‏}‏ بالصاد، وهو الأخذ بأطراف الأصابع، وقراءة الجماعة ‏{‏فَقَبَضْتُ‏}‏ بالضاد وهو القبض بالكف‏.‏ ‏{‏فَنَبَذْتُهَا‏}‏، يعني‏:‏ فطرحتها في العجل‏.‏ ‏{‏وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى‏}‏، أي‏:‏ زينت لي نفسي، فلا تلمني بهذا الفعل ولمهم بعبادتهم إياه‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ له موسى‏:‏ ‏{‏فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة‏}‏، يعني‏:‏ عقوبتك في الدنيا ‏{‏أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ‏}‏، يعني‏:‏ لا أمس أحداً ولا يَمسَّني أحد، ويقال‏:‏ ابتلي بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت، ويقال‏:‏ معناه لن تخالط أحداً ولن يخالطك أحد فنفاه عن قومه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ‏}‏ في الآخرة‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏لَّن تُخْلَفَهُ‏}‏ بكسر اللام، لن تغيب عنه، ومعناه تبعث يوم القيامة لا تقدر على غير ذلك ولا تخلفه، وقرأ الباقون ‏{‏تُخْلَفَهُ‏}‏ بنصب اللام، يعني‏:‏ لن تؤخر ولن تجاوز عنه، ويقال‏:‏ معناه يكافئك الله تعالى على ما فعلت والله لا يخلف الميعاد‏.‏

‏{‏وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً‏}‏، يعني‏:‏ عابداً‏.‏ ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏‏.‏ روى معمر، عن قتادة قال‏:‏ في حرف ابن مسعود ‏{‏***لَنُذَبِّحَنَّهُ‏}‏ ثمَّ ‏{‏عَاكِفاً لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏، وقرأ الحسن ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏ بالتخفيف، وقراءة العامة بالتشديد ونصب الحاء، ومعناه أنه يحرق مرة بعد مرة؛ وقرأ أبو جعفر المدني ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏ بنصب النون وضم الراء، ومعناه لنبردنه بالمباريد، ويقال‏:‏ حرقه وأحرقه‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى اليم نَسْفاً‏}‏، يعني‏:‏ لنذرينه في البحر ذرواً والنسف التذرية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 108‏]‏

‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا إلهكم الله الذى لا إله إِلاَّ هُوَ‏}‏، يعني‏:‏ أن العجل ليس بإلهكم وإنما إلهكم؛ الله الذي لا إله إلا هو‏.‏ ‏{‏وَسِعَ كُلَّ شَئ عِلْماً‏}‏، يعني‏:‏ أحاط علمه بكل شيء، وهو عالم بما كان وما يكون قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ‏}‏، يعني‏:‏ أخبار ما مضى‏.‏ ‏{‏وَقَدْ اتيناك‏}‏، يعني‏:‏ أعطيناك ‏{‏مِن لَّدُنَّا ذِكْراً‏}‏، يعني‏:‏ أكرمناك من عندنا بالقرآن ‏{‏مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ‏}‏، يعني‏:‏ من يكفر بالقرآن، ‏{‏فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً‏}‏؛ يعني‏:‏ حملاً من الذنوب‏.‏ ‏{‏خالدين فِيهِ‏}‏، يعني‏:‏ دائمين في عقوبة الوزر، ‏{‏وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً‏}‏؛ يعني‏:‏ بئس الحمل الوزر، وبئس ما يحملون من الذنوب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏، يعني‏:‏ في يوم ينفخ في الصور وهو يوم القيامة‏.‏ قرأ أبو عمرو ‏{‏وَيَوْمَ *** وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ بالنون، واحتج بقوله ‏{‏وَنَحْشُرُ المجرمين‏}‏ والباقون بالياء قال أبو عبيدة‏:‏ وبهذا نقرأ، لأن النافخ ملك قد التقم الصور، وأما الحشر فالله تعالى يحشرهم‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ معناه ينفخ الأرواح في الصور وخالفه غيره‏.‏ ثم قال‏:‏ و‏{‏نَحْشُرُ *** المجرمين‏}‏، أي‏:‏ المشركين ‏{‏يَوْمِئِذٍ زُرْقاً‏}‏، يعني‏:‏ عطاشاً؛ ويقال‏:‏ عمياً، ويقال‏:‏ زرق الأعين‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس‏:‏ إن الله يقول في موضع ‏{‏وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً‏}‏ ‏{‏وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏، فقال ابن عباس‏:‏ إن يوم القيامة له حالات‏:‏ في حال زرقاً وفي حال عمياً‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏زُرْقاً‏}‏ أي تبيض عيونهم من العمى أي ذهب السواد والناظر، وقال الزجاج‏:‏ يقال عطاشاً، لأن من شدة العطش يتغير سواد الأعين حتى تزرق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يتخافتون بَيْنَهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ يتشاورون فيما بينهم‏.‏ ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏، يعني‏:‏ ما مكثتم في القبور بعد الموت، ‏{‏إِلاَّ عَشْراً‏}‏؛ يعني‏:‏ عشرة أيام؛ ويقال‏:‏ عشر ساعات‏.‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً‏}‏، يعني‏:‏ أوفاهم عقلاً ويقال‏:‏ أعدلهم رأياً عند أنفسهم‏.‏ ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏، يعني‏:‏ ما مكثتم في القبور، ‏{‏إِلاَّ يَوْماً‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال‏}‏؛ وذلك أن بني ثقيف من أهل مكة قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف تكون الجبال يوم القيامة فنزل ‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ‏}‏، يعني‏:‏ عن أمر الجبال‏.‏ ‏{‏فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً‏}‏، يعني‏:‏ يقلعها ربي قلعاً من أمكنتها‏.‏ والنسف‏:‏ التذرية أي تصيير الجبال كالهباء المنثور‏.‏

‏{‏فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً‏}‏؛ قال القتبي‏:‏ القاع واحدة القيعة وهي الأرض التي يعلوها السراب كالماء، والصفصف‏:‏ المستوي؛ وقال السدي‏:‏ القاع الأملس والصفصف المستوي‏.‏ ‏{‏لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً‏}‏، يعني‏:‏ لا ترى فيها صعوداً ولا هبوطاً؛ ويقال‏:‏ لا ترى فيها أودية، ولا أمتاً يعني‏:‏ شخوصاً‏.‏ والأمت في كلام العرب ما نشز من الأرض‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى‏}‏، أي‏:‏ يقصدون نحو الداعي‏.‏ ‏{‏لاَ عِوَجَ لَهُ‏}‏، ومعناه لا يميلون يميناً ولا شمالاً، ‏{‏وَخَشَعَتِ الاصوات للرحمن‏}‏؛ يعني‏:‏ خضعت وذلت وسكنت الكلمات للرحمن، يعني‏:‏ لهيبة الرحمن‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً‏}‏، يعني‏:‏ كلاماً خفياً ويقال صوت الأقدام كهمس الإبل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 114‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ في الشفاعة، ‏{‏وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً‏}‏ يعني‏:‏ إذا قال بإخلاص القلب لا إله إلا الله في الدنيا ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من أمر الآخرة ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ من أمر الدنيا، ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً‏}‏؛ أي‏:‏ لا يدركون علم الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَعَنَتِ الوجوه‏}‏؛ قال قتادة‏:‏ ذلَّت الوجوه ‏{‏لِلْحَىّ القيوم‏}‏؛ وقال القتبي‏:‏ أصله من عنيته أي‏:‏ حبسته، ومنه قيل للأسير عان؛ وقال الزجاج‏:‏ رحمه الله‏:‏ عنت أي‏:‏ خضعت، يقال‏:‏ عنا يعنو أي‏:‏ خضع ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً‏}‏، أي‏:‏ خسر من حمل شركاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات‏}‏، يعني‏:‏ من يعمل من الطاعات ومن للصِّلة والزينة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ مع عمله، لأن العمل لا يقبل بغير إيمان، ‏{‏فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً‏}‏؛ قال قتادة‏:‏ أي‏:‏ لا يزداد في سيئاته ولا ينقص من حسناته أي‏:‏ لا يهضم‏.‏ قال السدي رحمه الله‏:‏ الظلم أن يأخذ لما لم يعمل، والهضم النقصان من حقه‏.‏ قال القتبي‏:‏ ومنه قيل هضيم الكشحين، أي‏:‏ ضامر الجنبين، وهضمني الطعام أي أمرأني ويهضمني حقي‏.‏ قرأ ابن كثير ‏{‏فَلاَ يَخَافُ‏}‏ على معنى النهي، والباقون ‏{‏فَلاَ يَخَافُ‏}‏ على معنى الخبر‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك أنزلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد‏}‏، يعني‏:‏ هكذا أنزلنا عليك جبريل، ليقرأ عليك القرآن على لغة العرب، وبينَّا في القرآن من أخبار الأمم الماضية وما أصابهم بذنوبهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لكي يتقوا الشرك ‏{‏أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً‏}‏، يعني‏:‏ يحدث الوعيد بهذا القرآن، أو هذا القرآن لهم اعتباراً، فيذكر به عذاب الله للأمم فيعتبروا؛ وهذا قول مقاتل، ويقال‏:‏ ‏{‏أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً‏}‏ أي يحدث الوعيد بذكر العذاب فيزجرهم عن المعاصي، ويقال‏:‏ ‏{‏أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً‏}‏، أي شرفاً، والذكر الشرف‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فتعالى الله الملك الحق‏}‏، يعني‏:‏ ارتفع وتعظم عن الشريك والولد ‏{‏الملك الحق‏}‏ أهل الربوبية؛ ويقال‏:‏ ‏{‏فتعالى الله الملك الحق‏}‏، يعني‏:‏ ارتفع وتعظم من أن يزيد في سيئات أحد وينقص من حسنات أحد ‏{‏الملك الحق‏}‏ الذي يعدل بين الخلق ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏، وذلك أن جبريل عليه السلام كان إذا قرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يتعجل النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته قبل أن يختم جبريل تلاوته مخافة أن لا يحفظ، فنزل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ‏}‏ أن يفرغ جبريل عليه السلام من قراءته، فيكون في الآية تعليم حفظ الأدب، وهو الاستماع إلى من يتعلم منه؛ وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏ روى جرير بن حازم عن الحسن أن رجلاً لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص قبل أن ينزل القرآن، فنزل ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان‏}‏ الآية، أي لا تعجل بالقصاص من قبل أن يقضى عليك بالقرآن، ونزل قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء‏}‏ قال‏:‏ وكان الحسن يقرأ ‏{‏مِن قَبْلُ إِنَّ *** يَقْضِى *** إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ بالنصب، يعني‏:‏ من قبل أن ينزل إليك جبريل بالوحي؛ وقراءة العامة ‏{‏يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ بالرفع على فعل ما لم يسم فاعله، ومعنى القراءتين واحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏، يعني‏:‏ زدني علماً بالقرآن، معناه زدني فهماً في معناه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 123‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏ فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ‏}‏، يعني‏:‏ أمرنا آدم عليه السلام بترك أكل الشجرة من قبل، يعني‏:‏ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏، يعني‏:‏ فترك أمرنا، ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏؛ أي‏:‏ حفظاً لما أمر به‏.‏ روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏عَهِدْنَا إلى *** مِن رَّبِّهِ **قَبْلُ فَنَسِىَ‏}‏ يعني‏:‏ فترك أمرنا ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏، يعني‏:‏ حزماً صريماً؛ وقال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ صبراً؛ وقال السدي مثله، وقال عطية‏:‏ ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏، أي‏:‏ حفظاً بما أمر به‏.‏ روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ عهد إلى آدم فنسي، فسمي الإنسان‏.‏ وقال القتبي‏:‏ النسيان ضد الحفظ‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّى نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏، والنسيان الترك‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فَنَسِىَ‏}‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى‏}‏، أي‏:‏ تعظم عن السجود، ‏{‏فَقُلْنَا يائادم *** أَن لاَّ **هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ‏}‏؛ يعني‏:‏ إبليس عدو لك ولزوجك حواء فاحذرا منه، ‏{‏فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى‏}‏؛ يعني‏:‏ فتتعب ويتعبا بعمل كفيك ولا تأكل إلا كداً بعد النعمة‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لما هبط آدم من الجنة وكلّف العمل، فكان يمسح العرق عن جبينه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى‏}‏، وهو العرق الذي مسحه من الجبين‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَكَ *** أَن لا **تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى‏}‏، يعني‏:‏ أن حالك ما دمت في الجنة لا تجوع ولا تعرى من الثياب‏.‏ ‏{‏وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا‏}‏، يعني‏:‏ لا تعطش في الجنة، ‏{‏وَلاَ تضحى‏}‏؛ يعني‏:‏ لا يصيبك الضحى؛ وهو حر الشمس‏.‏ قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏وَأَنَّكَ‏}‏ بالكسر على معنى الابتداء، وقرأ الباقون ‏{‏وَأَنَّكَ‏}‏ بالنصب على معنى البناء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ يئَادَمُ *** ءادَمَ **هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد‏}‏ من أكل منها خلد ولم يمت ‏{‏وَمُلْكٍ لاَّ يبلى‏}‏‏؟‏ يعني‏:‏ هل أدلك على ملك لا يفنى‏؟‏ فهو أكل الشجرة‏.‏ ‏{‏فَأَكَلاَ مِنْهَا‏}‏، يعني‏:‏ من الشجرة وقد ذكرنا تفسير الشجرة في سورة البقرة‏.‏ ‏{‏فَبَدَتْ لَهُمَا‏}‏، أي‏:‏ ظهرت لهما عوراتهما، ‏{‏سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ‏}‏؛ أي‏:‏ عمدا يلزقان ‏{‏عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة وعصى *** ءادَمَ ***** رَبَّهُ‏}‏، أي‏:‏ ترك أمره بأكله من الشجرة، ‏{‏فغوى‏}‏؛ أي‏:‏ أخطأ ولم يصب بأكله ما أراد وما وعد له من الخلود‏.‏

‏{‏ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ‏}‏، أي‏:‏ اختاره واصطفاه بالنبوة ‏{‏فَتَابَ عَلَيْهِ‏}‏، يعني‏:‏ تجاوز عنه وقبل توبته، ‏{‏وهدى‏}‏؛ يعني‏:‏ هداه الله تعالى للتوبة بكلمات تلقاها‏.‏ ‏{‏قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً‏}‏؛ يعني‏:‏ من الجنة آدم وحواء وإبليس والحية ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى‏}‏؛ يعني‏:‏ يا ذرية آدم سيأتيكم مني الكتب والرسل، خاطبه به وعنى ذريته‏.‏ ‏{‏فَمَنِ اتبع هُدَاىَ‏}‏؛ يعني‏:‏ أطاع كتبي ورسلي ‏{‏فَلاَ يَضِلُّ‏}‏ باتباعه إياها في الدنيا، ‏{‏وَلاَ يشقى‏}‏ في الآخرة‏.‏ وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ من قرأ القرآن واتَّبع ما فيه، هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 129‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى‏}‏، يعني‏:‏ عن القرآن والرسل ولم يؤمن؛ وقال مقاتل‏:‏ من أعرض عن الإيمان، ‏{‏فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏؛ يعني‏:‏ معيشة ضيقة‏.‏ روي عن ابن مسعود، وأبي سعيد الخدري أنهما قالا‏:‏ ‏{‏مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏؛ يقول عذاب القبر‏.‏ وروى أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏، قال‏:‏ «عَذَاب القَبْرِ»‏.‏ ‏{‏وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى‏}‏، أي‏:‏ أعمى عن الحجة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وذلك حين يخرج من القبر، يخرج بصيراً؛ فإذا سيق إلى المحشر عمي‏.‏ قال عكرمة رحمه الله في قوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى‏}‏، قال‏:‏ عمي قلبه عن كل شيء إلا جهنم؛ وقال الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏‏.‏ قال‏:‏ الكسب الخبيث وقيل‏:‏ معيشة سوء، لأنه في معاصي الله؛ وقال السدي‏:‏ ‏{‏مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏، أي‏:‏ عذاب القبر حين يأتيه الملكان؛ وقال قتادة‏:‏ الضنك الضيق، يقول‏:‏ ضنكاً في النار‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى‏}‏، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى‏}‏ لا حجة لي‏؟‏ ‏{‏وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً‏}‏ بالحجة في الدنيا، ويقال‏:‏ ‏{‏لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى‏}‏ أي‏:‏ أعمى العينين ‏{‏وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً‏}‏ في الدنيا‏؟‏ ‏{‏قَالَ كذلك أَتَتْكَ اياتنا فَنَسِيتَهَا‏}‏ يعني‏:‏ الرسل والقرآن فنسيتها وتركت العمل بها ولم تؤمن بها‏.‏ ‏{‏وكذلك اليوم تنسى‏}‏، أي‏:‏ تترك في النار‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏كذلك أَتَتْكَ اياتنا فَنَسِيتَهَا‏}‏، أي‏:‏ تعلمت القرآن فنسيته وتركته‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وكذلك اليوم تنسى‏}‏ أي‏:‏ تترك في النار وتترك عن الخير‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ‏}‏ يعني‏:‏ هكذا نعاقب من أشرك بالله، ‏{‏وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ‏}‏؛ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن‏.‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَدُّ وأبقى‏}‏، يعني‏:‏ وأدوم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ أفلم يتبين لقومك‏؟‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون يَمْشُونَ فِى مساكنهم‏}‏، يعني‏:‏ يمرون على منازلهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ‏}‏، يعني‏:‏ في هلاكهم لعبرات ‏{‏لاِوْلِى النهى‏}‏، يعني‏:‏ لعبرات لذوي العقول من الناس‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏؛ وهذا مقدم ومؤخر، يقول‏:‏ ولولا كلمة سبقت بتأخير العذاب عن هذه الأمة إلى أجل مسمى، أي‏:‏ إلى يوم القيامة، أي‏:‏ لكان لزاماً، أي‏:‏ لأخذتهم بالعذاب كما أخذت من كان قبلهم من الأمم عند التكذيب، ولكن نؤجلهم إلى يوم القيامة ‏{‏وَهُوَ *** أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏‏.‏ وقال القتبي‏:‏ معناه ولولا أن الله عز وجل جعل الجزاء يوم القيامة وسبقت بذلك كلماته، لكان العذاب ملازماً لا يفارقهم‏.‏ وقال‏:‏ في الآية تقديم، أي‏:‏ ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى، لكان العذاب لازماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 131‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏‏}‏

‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏، يعني‏:‏ على ما يقول أهل مكة من تكذيبهم إياك‏.‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏، يعني‏:‏ صل لربك واعمل بحمد ربك وبأمره ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس‏}‏ يعني‏:‏ صلاة الفجر وقبل غروبها، يعني‏:‏ صلاة العصر؛ ويقال‏:‏ صلاة الظهر والعصر‏.‏ وروى جرير، عن عبد الله البجلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ يعني‏:‏ لا تزدحمون، مأخوذ من الضم أي‏:‏ لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته بظهوره كما في رواية الهلال‏.‏ ويروى لا تضامون بالتخفيف وهو الضم أي‏:‏ الظلم، أي‏:‏ لا يظلم بعضكم في رؤيته بأن يراه البعض دون البعض فَإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تُغْلَبُوا عَنِ الصَّلاةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا»‏.‏ ثم قرأ هذه الآية ‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏‏.‏

‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏، على معنى التأكيد للتكرار ‏{‏وَمِنْ ءانَاء اليل‏}‏، يعني‏:‏ ساعات الليل‏.‏ ‏{‏فَسَبّحْ‏}‏، يعني‏:‏ صلاة المغرب والعشاء، ‏{‏وَأَطْرَافَ النهار‏}‏؛ يعني‏:‏ غدوة وعشية‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكَ ترضى‏}‏؛ يعني‏:‏ لعلك تعطى من الشفاعة حتى ترضى‏.‏ قرأ الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏ترضى‏}‏ بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله، والباقون بالنصب يعني‏:‏ ترضى أنت؛ وقال أبو عبيدة‏:‏ وبالقراءة الأولى نقرأ بالضم، لأن فيها معنيين أحدهما ترضى أي‏:‏ تعطى الرضا، والأخرى ترضى أي يرضاك الله‏.‏ وتصديقه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 55‏]‏؛ وليس في الأخرى وهي القراءة بالنصب، إلا وجه واحد‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزواجا مّنْهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ لا تنظر بالرغبة إلى ما أعطينا رجالاً منهم من الأموال والأولاد‏.‏ ‏{‏زَهْرَةَ الحياة الدنيا‏}‏، يعني‏:‏ فإن زينة الدنيا‏.‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏، يعني‏:‏ لنبتليهم بالمال وقلة الشكر‏.‏ ‏{‏وَرِزْقُ رَبّكَ‏}‏، أي‏:‏ جنة ربك ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ من هذه الزينة التي في الدنيا، ‏{‏وأبقى‏}‏؛ أي‏:‏ وأدوم‏.‏ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله‏:‏ حدّثنا محمد بن الفضل‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا إسماعيل بن جعفر‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن يوسف‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي رافع قال‏:‏ نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم ضيف فبعثني إلى يهودي أن يبيعنا أو يسلفنا إلى أجل، فقال اليهودي‏:‏ لا والله إلاَّ بِرَهْنٍ‏.‏ فرجعت إليه فأخبرته فقال‏:‏ «لَوْ بَاعَنِي أوْ أْسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ؛ وإنِّي لأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ وَأمِينٌ فِي الأَرْضِ، اذْهَبْ بِدِرْعِي الحَدِيدِيِّ» فذهبت بها فنزل من بعدي هذه الآية تعزية عن الدنيا ‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزواجا مّنْهُمْ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 135‏]‏

‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة‏}‏، يعني‏:‏ قومك وأهلك وأهل بيتك بالصلاة‏.‏ ‏{‏واصطبر عَلَيْهَا‏}‏، يعني‏:‏ اصبر على ما أصابك فيها من الشدة‏.‏ روى عبد الرزاق، عن معمر، عن رجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل عليه نقص في الرزق، أي‏:‏ ضيق، أمر أهله بالصلاة‏.‏ ثم قرأ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا‏}‏‏.‏ ‏{‏لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً‏}‏ لخلقنا ولا أن ترزق نفسك؛ إنما نسألك العبادة‏.‏ ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكَ‏}‏ في الدنيا ما دمت حياً‏.‏ ‏{‏والعاقبة للتقوى‏}‏، يعني‏:‏ الجنة للمتقين‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏، يعني الكفار‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏، يعني‏:‏ هلا يأتينا محمد بعلامة لنبوته‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ *** تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ‏}‏، يعني‏:‏ بيان ‏{‏مَا فِى الصحف الاولى‏}‏، يعني‏:‏ ما في التوراة والإنجيل حتى يجدوا نعته فيه؛ وهذا كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ‏}‏، يقول‏:‏ لو أن أهل مكة أهلكناهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، ‏{‏لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى‏}‏، يعني‏:‏ من قبل أن نعذب‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ‏}‏، يعني‏:‏ منتظر لهلاك صاحبه أنا وأنتم وقال مقاتل‏:‏ كان كفار مكة يقولون نتربص بمحمد ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏، يعني‏:‏ الموت ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم العذاب، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ‏}‏، يعني‏:‏ أنتم متربصون بمحمد صلى الله عليه وسلم الموت، ومحمد متربص بكم العذاب، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ‏}‏ ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ‏}‏، أي‏:‏ انتظروا، ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ‏}‏ إذا نزل بكم العذاب، ‏{‏مَنْ أصحاب الصراط السوي‏}‏، أي‏:‏ العدل ‏{‏وَمَنِ اهتدى‏}‏ منا ومنكم‏.‏ قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ‏}‏ بالتاء، لأن لفظ البينة مؤنث، والباقون ‏{‏أَوَلَمْ *** يَأْتِهِمْ‏}‏ بالياء، لأن معناه البيان‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏